أحداث السيرة من مولد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى بعثته

آمنه تبشر جده بمولده
عن عليّ بن يزيد بن عبد الله بن وهب بن زَمْعة عن أبيه عن عمّته قالت: ولما ولدت آمنة بنت وهب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أرسلت إلى عبد المطلب، فجاءه البشير وهو جالِسٌ في الحِجْر معه ولده ورجال من قومه، فأخبره أن آمنة وَلَدَت غلامًا، فسرّ ذلك عبد المطّلب وقام هو ومن كان معه فدخل عليها، فأخبرته بكل ما رأت وما قيل لها وما أُمِرَت به، قال: فأخذه عبد المطّلب فأدخله الكعبة وقام عندها يدعو الله ويشكر ما أعطاه.
إعلام جدّه بولادته وما فعله به
قال ابن إسحاق: فلما وضعته أمه صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى جدّه عبد المطلب: أنه قد وُلد لك غلام، فأتِه فانظرْ إليه، فأتاه فنظر إليه، وحدّثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه وما أُمِرَتْ به أن تسمّيه.
فيزعمون أنّ عبد المطّلب أخذه، فدخل به الكعبة، فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به إلى أمّه فدفعه إليها، والتمس لرسول الله- صلى الله عليه وسلم الرُّضَعاء.
رَضَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم-
كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ صلى الله عليه وسلم هِيَ أُمُّهُ آمِنَةُ، قِيلَ أرْضَعَتْهُ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، وقِيلَ سَبْعًا، وقِيلَ تِسْعًا. ثُمَّ أرْضَعَتْهُ ثُوَيْبَةُ (1) لَبَنَ ابنٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ “مَسْرُوحٌ” (2)، أَرْضَعَتْهُ أَيَّامًا، قَبْلَ أَنْ تَقْدُمَ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ، وكانَتْ قَدْ أَرْضَعَتْ قَبْلَهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ (3) رضي الله عنه، وأرْضَعَتْ بَعْدَهُ أبَا سَلَمَةَ بنَ عَبْدِ الأسَدِ المَخُزوِمِيَّ (4) رضي الله عنه فَكانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وعَمُّهُ حَمْزَةُ، وأبُو سَلَمَةَ إِخْوَةً مِنَ الرَّضَاعَةِ.
روَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنها قَالَتْ: . . . قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّا نُحَدَّثُ أنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: “بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟ ” (1)، قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: “لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي (2) في حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أرْضَعَتْنِي وأبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةٌ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ ولَا أَخَوَاتِكُنَّ” (3).
ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ألَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟
فقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إنَّهَا لا تَحِلُّ لِي، إنَّهَا ابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، ويَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ”
اسْتِرْضَاعُهُ صلى الله عليه وسلم في بَنِي سَعْدٍ
ثُمَّ الْتَمَسَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَرَاضِعَ عَلَى عَادَةِ أهْلِ مَكَّةَ الذِينَ كَانُوا يُؤْثِرُونَ إِذَا وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ أَنْ يَلْتَمِسُوا لَهُ مُرْضِعَةً مِنَ البَادِيَةِ، وسَبَبُ الْتِمَاسِ المَرَاضِعِ لِأَوْلَادِهِمْ أُمُورٌ، ذكَرَهَا الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ فَمِنْهَا:
1 – لِيَنْشَأَ الطِّفْلُ في الأَعْرَابِ، فَيَكُونَ أفْصَحَ لِلِسَانِهِ.
2 – لِيَكُونَ أجْلَدَ (1) لِجِسْمِهِ، وأجْدَرَ أَنْ لا يُفَارِقَ الهَيْئَةَ المَعَدِّيَةَ، كمَا قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه اخْشَوْشِنُوا، وَاخْشَوْشِبُوا (2)، واخْلَوْلِقُوا، وتَمَعْدَدُوا (3) كَأَنَّكُمْ مَعَدّ (4)، وإيَّاكُمْ والتَّنَعُّمَ (5).
3 – حتَّى يَكُونَ أنْجَبَ لِلْوَلَدِ وأصْفَى لِلذِّهْنِ (6).
قَالَ الشَّيْخُ محمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وتَنْشِئَةُ الأوْلَادِ في البَادِيَةِ لِيَمْرَحُوا في كَنَفِ الطَّبِيعَةِ، ويَسْتَمْتِعُوا بِجَوِّهَا الطَّلْقِ وشُعَاعِهَا المُرْسَلِ، أدْنَى إِلَى تَزْكِيَةِ الفِطْرَةِ، وإنْمَاءِ الأَعْضَاءِ والمَشَاعِرِ، وإطْلَاقِ الأَفْكَارِ والعَوَاطِفِ، . . . وكَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّرْبِيَةِ يَوَدُّ لَوْ تَكُونُ الطَّبِيعَةُ هِيَ المَعْهَدُ الأَوَّلُ لِلطِّفْلِ حتَّى تَتَّسِقَ مَدَارِكُهُ مَعَ حَقَائِقِ الكَوْنِ الذِي وُجِدَ فِيهِ (1).
قَالَ أحْمَد شَوْقِي رحمه الله:
يا أفْصَحَ النَّاطِقِينَ الضَّادَ قَاطِبَةً … حَدِيثُكَ الشَّهْدُ عِنْدَ الذَّائِقِ الفَهِمِ
حُلِّيتَ مِنْ عُطْلٍ جِيدَ البَيَانُ بِهِ … فِي كُلِّ مُنْتَثِرٍ في حُسْنِ مُنْتَظِمِ
بِكُلِّ قَوْلٍ كَرِيمٍ أَنْتَ قَائِلُهُ … تُحْيِي القُلُوبَ وتُحْيِي مَيِّتَ الهِمَمِ
* إقْبَالُ المَرَاضِعِ:
أقْبَلَتِ المَرَاضِعُ مِنَ البَادِيَةِ يَلْتَمِسْنَ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِ الأَشْرَافِ، فَاسْتَرْضَعَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لِحَفِيدِهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةً مِنْ قَبِيلَةِ سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، وهِيَ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ (2)، وزَوْجُهَا الحَارِثُ بنُ عَبْدِ العُزَّى، المُكَنَّى بِأَبِي كَبْشَةَ مِنْ نَفْسِ القَبِيلَةِ
حديث حليمة السعدية
عن عبد الله بن جَعْفر بن أبي طالب. أو عمَّن حدّثه عنه قال: كانت حليمة بنت أبى ذُؤَيب السّعْدية. أمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته، تحدّث: أنها خرجتْ من بَلَدها مع زوجها، وابن لها صغير (1) تُرضعه في نِسْوة من بني سَعد بن بَكْر، تلتمس الرضعاء، قالت: وذلك في سنة شَهْباء، لم تُبْق لنا شيئا. قالت: فخرجت على أتان لي قَمراء (2)، معنا شارف (3) لنا، والله ما تَبِضّ (4) بقطرة، وما ننام ليلَنا أجمعَ من صبيِّنا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديىّ ما يُغْنيه، وما في شارفنا ما يغديه -قال ابن هشام: ويقال: يغذيه (5) – ولكنَّا كنّا نرجو الغيثَ والفرج فخرجت على أتاني تلك فلقد أدَمْتُ (6) بالرَّكب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجَفا (7)، حتى قَدِمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منَّا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها إنه يَتيم، وذلك أنا إنما كنّا نَرْجو المعروفَ من أبى الصبيّ، فكنَّا نقول، يتيم! وما عسى أن تَصْنع أمُّه وجدُّه! فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمتْ معي إلا أخذتْ رضيعا غيري، فلمَّا أجْمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجعَ من بين صَواحبي رقم آخذْ رضيعا، والله لأذهبنّ إلى ذلك اليَتيم فلآخذنه؛قال: لا عليك أن تَفْعلي، عسى الله أن يجعلَ لنا فيه بركة. قالت: فذهبتُ إليه فأخذته، وما حَمَلني على أخْذه إلا أنى لم أجد غيره. قالت: فلما أخذتُه، رجعت به إلى رَحْلي، فلما وضعته في حِجْري أقبل عليه ثَدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنَّا ننام معه قبلَ ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل، فحَلب منها ما شَرب، وشربتُ معه حتى انتهينا رِيًّا وشِبعَا فبتنا بخير ليلة. قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نَسمة مباركة؛ قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت (أنا) أتاني، وحملتُه عليها معي، فوالله لقطعتْ بالرَّكب ما يقدر عليها شيءٌ من حُمُرهم، حتى إن صَواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبى ذُؤَيب، ويحك أربعي (1) علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي هي؛ فقلت: والله إن لها لشأنا. قالت: ثم قدمنا منازلَنا من بلاد بني سَعد وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدَب منها، فكانت غَنمى تروح عليّ حين قَدِمنا به معنا شِباعا لُبَّنا، فنحلُب ونشرب، وما يحلُب إنسان قَطْرة لبن، ولا يجدها في ضَرع، حتى كان الحاضرون من قَوْمنا يقولون لرُعيانهم: ويلكم اسْرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذُؤَيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تَبِض بقطرة لبن، وتروح غنمي شِباعا لُبَّنا. فلم نزل نتعرّف من الله الزيادةَ والخير حتى مضت سنتاه (2) وفصلتُه، وكان يشِبّ شبابا لا يشبُّه الغِلمان، فلم يبلغ سنتَيه حتى كان غلاما جَفْرًا (3) قالت: فقَدمْنا به على أُمِّه ونحن أحرصُ شيءٍ على مُكثه فينا، لما كنَّا نرى من بَركته. فكلَّمنا أمَّه وقلت لها: لو تركتِ بُنَيّ عندي حتى يغلُظَ فإني أخشى عليه وَبَأ (4) مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردّته معنا.
خلف بيوتنا، إذ أتانا أخووه يَشْتدّ (1)، فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشيّ قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقَّا بطنَه، فهما يَسوطانه (2) قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدنا قائما مُنتَقَعا (3) وجهُه. قالت فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: ما لك يا بُنيّ؛ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعانى وشقا بطني، فالتمسا (فيه) شيئًا لا أدري ما هو. قالت: فرجعنا (به) (4) إلى خبائنا
حَادِثَةُ شَقِّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ صلى الله عليه وسلم
وَقَعَتْ حَادَثِةُ شَقِّ صَدْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وهُوَ فِي بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ في المُسْنَدِ، والحَاكِمِ فِي المُسْتَدْرَكِ عَنْ عُتْبَةَ بنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ أوَّلُ شَأْنِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟
فقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، فَانْطَلَقْتُ أنَا وابْنٍ لَهَا فِي بَهْمٍ (1) لنَا، ولَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَادًا، فَقُلْتُ: يا أَخِي، اذْهَبْ فَأْتِنَا بِزَادٍ مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا (2)، فَانْطَلَقَ أَخِي، ومَكَثْتُ عِنْدَ الْبَهْمِ، فَأَقْبَلَ طَيْرَانِ أبْيَضَانِ، كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ، فقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَا يَبْتَدِرَانِي (3)، فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي إِلَى القَفَا، فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي، فَشَقَّاهُ، فأخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ائْتِنِي بِمَاءِ ثَلْجٍ، فَغَسَلَا بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِمَاءِ بَرَدٍ، فَغَسَلَا بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِالسَّكِينَةِ، فَذَرَّاهَا (4) فِي قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حُصْهُ، فَحَاصَهُ (1)، وخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، . . . ثُمَّ انْطَلَقَا وتَرَكَانِي، وَفَرِقْتُ (2) فَرَقًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرْتُهَا بِالذِي لَقِيتُهُ، فأشْفَقَتْ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ أُلْبِسَ (3) بِي، قَالَتْ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ، فَرَحَلَتْ بَعِيرًا لَهَا، وَحَمَلَتْنِي عَلَى الرَّحْلِ، ورَكِبَتْ خَلْفِي حتَى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي، فقَالَتْ: أَوَأَدَّيْتُ أَمَانَتِي وذِمَّتِي؟ وحَدَّثَتْهَا بِالذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْهَا ذَلِكَ، وقَالَتْ: إنِّي رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ” (4).
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أتَاهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ القَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءَ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ (5)، ثُمَّ أَعَادَهُ في مَكَانِهِ، وجَاءَ الغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرِهِ (6)، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلْ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وهُوَ مُنْتَقِعُ (7) اللَّوْنِ قَالَ أنَسٌ: وقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ المَخِيطِ فِي صَدْرِهِ (1).
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: والحِكْمَةُ مِنْ شَقِّ صَدْرِهِ صلى الله عليه وسلم وهُوَ صَغِيرٌ: نَزْعُ العَلَقَةِ السَّوْدَاءَ التِي مِنْ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْ كُلِّ بَشَرٍ، ثُمَّ إِخْرَاجُهَا بَعْدَ خَلْقِهَا كَرَامَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى مَزِيدٍ مِنَ الرِّفْعَةِ وَالكَرَامَةِ، وبِنَزْعِهَا مِنْهُ نَشَأَ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَكْمَلِ الأَحْوَالِ مِنَ العِصْمَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ (2).
* عُمُرُ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا شُقَّ صَدْرُهُ:
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَنَّ عُمُرَ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا شُقَّ صَدْرُهُ الشَّرِيفُ، ابْنُ سَنَتَيْنِ، ولَفْظُهُ: قالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حتَّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا (3).
وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: أَنَّ عُمُرَهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا شُقَّ صَدْرُهُ الشَّرِيفُ، أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ، ولَفْظُهُ: قَالَتْ حَلِيمَةُ: وَلَمَّا بَلَغَ أرْبَعَ سِنِينَ كَانَ يَغْدُو مَعَ أَخِيهِ وأُخْتِهِ فِي الْبَهْمِ. . . (4).
قَالَ الزَّرْقَانِيُّ في شَرْحِ المَوَاهِبِ: والرَّاجِحُ أَنَّ شَقَّ صَدْرِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الرَّابِعَةِ، كمَا جَزَمَ بهِ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ في نَظْمِ السِّيرَةِ (1)، وتِلْمِيذُهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في سِيرَتِهِ، وهِيَ صَغِيرَةٌ مُفِيدَةٌ (2).
* تَكْرَارُ شَقِّ الصَّدْرِ:
وقَدْ تَكَرَّرَ شَقُّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هَذِهِ المَرَّةِ، فَمِنْهَا:
* المَرَّةُ الثَّانِيَةُ: وهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ صلى الله عليه وسلم-:
رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ جَرِيئًا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَوَّلُ مَا رَأَيْتَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ؟
فَاسْتَوَى رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، فَقَالَ: “لَقَدْ سَأَلْتَ أبَا هُرَيْرَةَ، إنِّي لَفِي صَحْرَاءٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وأشْهُرٍ، وَإِذَا بِكَلَامٍ فَوْقَ رَأْسِي، وإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ: أهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَقْبَلَانِي بِوُجُوهٍ لَمْ أَرَهَا لِخَلْقٍ قَطُّ، وأَرْوَاحٍ لَمْ أَجِدْهَا مِنْ خَلْقٍ قَطُّ، وثِيَابٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ، فَأَقْبَلَا إِلَيَّ يَمْشِيَانِ، حَتَّى أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَضُدِي (3)، لَا أَجِدُ لِأَخْذِهِمَا مَسًّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: افْلُقْ (1) صَدْرَهْ، فَهَوَى أَحَدُهُمَا إِلَى صَدْرِي، فَفَلَقَهَا فِيمَا أَرَى بِلَا دَمٍ وَلَا وَجَعٍ، فَقَالَ لَهُ: أَخْرِجْ الغِلَّ والحَسَدَ، فأخْرَجَ شَيْئًا كَهَيْئَةِ العَلَقَةِ، ثُمَّ نَبَذَهَا فَطَرَحَهَا، فقَالَ لَهُ: أَدْخِلِ الرَّأْفَةَ والرَّحْمَةَ، فَإِذَا مِثْلُ الذِي أَخْرَجَ يُشْبِهُ الفِضَّةَ، ثُمَّ هَزَّ إبْهَامَ رِجْلِيَ اليُمْنَى، فَقَالَ: اغْدُ وَاسْلَمْ، فَرَجَعْتُ بِهَا أَغْدُو بِهِ رِقَّةً عَلَى الصَّغِيرِ ورَحْمَةً لِلْكَبِيرِ” (2).
* المَرَّةُ الثَّالِثَةُ: عِنْدَ المَبْعَثِ:
روَى الطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “. . . هَبَطَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى الأَرْضِ، فَسَلَقَنِي لِحَلَاوَةِ القَفَا (3)، وشَقَّ عَنْ بَطْنِي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ أعَادَهُ فِيهِ، ثُمَّ كَفَأَنِي كَمَا يَكْفَأُ الإِنَاءَ، ثُمَّ خَتَمَ فِي ظَهْرِي حَتَّى وَجَدْتُ مَسَّ الخَاتَمِ، ثُمَّ قَالَ لِي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، ولَمْ أَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ” (4).
* المَرَّةُ الرَّابِعَةُ: عِنْدَ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ:
رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وأنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ. . .” وذَكَرَ حَدِيثَ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ (1).
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: ثُمَّ وَقَعَ شَقُّ الصَّدْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ العُرُوجِ بِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاءِ لِيَتَأَهَّبَ لِلْمُنَاجَاةِ (2).
ويَتَرَجَّحُ لَدَيْنَا -بَعْدَ دِرَاسَةِ أسَانِيدِ هَذِهِ الأحَادِيثِ- أَنَّ الذِي صَحَّ فِي هَذِهِ الحَادِثَةِ -أَيْ حَادِثَةِ شَقِّ الصَّدْرِ- أَنَّهَا وَقَعَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ:
الأُولَى: وهُوَ صَغِيرٌ عِنْدَ ظِئْرِهِ فِي بَنِي سَعْدٍ، كَمَا فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ رضي الله عنه.
والثَّانِيَةُ: فِي لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، ومَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنهما (3).
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وجَمِيعُ مَا وَرَدَ فِي شَقِّ الصَّدْرِ، واسْتِخْرَاجِ القَلْبِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ مِمَّا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ دُونَ التَّعَرُّضِ لِصَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِصَلَاحِيَةِ القُدْرَةِ، فَلَا يَسْتَحِيلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
عَوْدَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُمِّهِ الحَنُونِ آمَنَةَ
وَبَعْدَ حَادِثِ شَقِّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ صلى الله عليه وسلم خَشِيَتْ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَدَّتْهُ إلَى أُمِّهِ، وكَانَ قَدْ بَلَغَ صلى الله عليه وسلم مِنَ العُمُرِ خَمْسَ سَنَوَاتٍ.
قَالَتْ حَلِيمَةُ: قَالَ لِي أَبُوهُ (أيْ زَوْجُهَا الحَارِثُ): يا حَلِيمَةُ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ، فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ بِهِ.
قالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ آمِنَةُ لِحَلِيمَةَ: مَا أَقْدَمَكِ بِهِ،وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ، وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ حَلِيمَةُ: إنَّهُ قَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الذِي عَلَيَّ، وتَخَوَّفْتُ الأَحْدَاثَ عَلَيْهِ، فَأَدَّيْتُهُ إِلَيْكِ كَمَا تُحِبِّينَ، فَقَالَتْ آمِنَةُ: مَا هَذَا شَأْنُكِ، فَأَصْدِقِينِي خَبَرَكِ.
قالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ تَدَعْنِي حتَّي أَخْبَرتُهَا، فقَالَتْ آمِنَةُ: أَفتَخَوَّفْتِ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ؟
قالَتْ حَلِيمَةُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ آمِنَةُ: كَلَّا، وَاللَّهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَإِنَّ لِابْنِي لَشَأْنًا دَعِيهِ عَنْكِ
وَفَاةُ آمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أمه أمنة بنت وهب، فلما بلغ ست سنين خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أم أيمن تحضنه وهم على بعيرين، فنزلت به في دار النابغة، فأقامت به عندهم شهرًا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أمورًا كانت في مقامه ذلك، لما نظر إلى أطم بني عدي بن النجار عرفه وقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم وكنت مع غلمان من أخوالي نطير طائرًا كان يقع عليه، ونظر إلى الدار فقال: ها هنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله ابن عبد المطلب وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه فقالت أم أيمن فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامه، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء توفيت آمنة بنت وهب، فقبرها هناك، فرجعت به أم أيمن على البعيرين الذين قدموا عليهما مكة، وكانت تحضنه مع أمه ثم بعد أن ماتت
كفالة جده له وصفة عبد المطلب ومنزلته من قومه ونجابته صلى الله عليه وسلم في صغره
وظل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أمه في كفالة جده. وكان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسن الناس وجهًا، ما رآه قط شيء إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر، لا يجلس عليه غيره. ولا يجلس معه عليه أحد وكان الندى من قريش، حرب بن أمية فمن دونه، يجلسون حوله دون المفرش فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام يدرج ليجلس على المفرش، فجذبوه، فبكى، فقال عبد المطلب، وذلك بعد ما حجب بصره، ما لابني يبكي، قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال عبد المطلب: دعوا ابني، فإنه يحس بشرف، أرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قط (1)
وكان عبد المطلب خيرًا مع قومه، وكان يطعمهم الكبد والسنام (2)
عن يزيد بن عياض، عن الزهري وحفص بن عمر، عن هشام بن الكلبي، عن أبيه، أن عبد المطلب كان إذا أتي بالطعام، أجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانبه، وربما أقعده على فخذه، فيؤثره بأطيب طعامه. وكان رقيقًا عليه بآدابه. فربما أُتي بالطعام وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضرًا فلا يمس شيئًا منه حتى يُؤتى به. وكان يفرش له في ظل الكعبة، ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه، فإذا خرج، قاموا على رأسه مع عبيده، إجلالًا له وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر، فيجلس على الفراش فيأخذه أعمامه ليؤخروه، فيقول عبد المطلب: مهلًا، دعوا ابني ما تريدون منه. ثم يقول: دعوه فإن له شأنًا؛ أما ترونه؟ ويقبل رأسه وفمه ويمسح ظهره، ويسر بكلامه وما يري منه (3)
قال محمَّد بن عمر بن واقد الأسلمي كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يكون مع أمه آمنه بنت وهب فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب: إذا رأى ذلك دعوا ابني إنه يؤنس مُلكًا. وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به فإنا لم نر قدمًا أشبه بالقدم التي في المقام منه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به، وقال عبد المطلب لأم أيمن، وكانت تحضن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريبًا من السدرة (1)، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني هذا نبي هذه الأمة، وكان عبد المطلب لا يأكل طعامًا إلا قال: عليَّ بابني، فيؤتى به إليه، فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحياطته.
قال: ومات عبد المطلب فدفن بالحجون، وهو يومئذ ابن اثنتين وثمانين سنة، ويقال ابن مائة وعشر سنين، وسئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: نعم أنا يومئذٍ ابن ثماني سنين؛ قالت أم أيمن: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يومئذٍ يبكي خلف سرير عبد المطلب (2).
اعتماد جده عليه في حوائجه لبركته ونجاح فعاله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
عن العباس ابن عبد الرحمن -هو الهاشمي- عن كندير ابن سعيد، عن أبيه، قال: حججت في الجاهلية فرأيت رجلًا يطوف بالبيت وهو يرتجز ويقول:
رب رد إلي راكبي محمدًا … يا رب رده واصطنع عندي يدًا
قال: قلت: من هذا؟ قالوا: هذا عبد المطلب بن هاشم بعث بابن له في طلب إبل له ولم يبعثه في حاجة قط إلا نجح فيها، وقد أبطأ عليه. قال: فلم يلبث حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم، والإبل فاعتنقه عبد المطلب، وقال:
يا بني، لقد جزعت عليك جزعًا لم أجزعه على شيء قط، والله لا بعثتك في حاجة أبدا، ولا تفارقني بعد هذا أبدا.
حدثنا خارجة، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن معاوية بن حيده، قال: خرج حيده بن معاوية في الجاهلية معتمرًا، فإذا بشيخٍ عليه ممصرتان، وهو يطوف بالبيت وهو يقول:رب رد إلي راكبي محمدًا … رده عليَّ واصطنع عندي يدًا
قلت: من هذا؟ قالوا: سيد قريش وابن سيدها، هذا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. قلت: فما محمَّد هذا منه؟ قالوا هذا ابن ابن له، وهو أحب الناس إليه، وله إبل كثيرة، فإذا ضل منها بعث فيها بنيه يطلبونها وإذا أعيى بنوه بعث ابن ابنه، وقد بعثه في ضالة أعيى عنها بنوه، وقد احتبس عنه. فوالله ما برحت البلد حتى جاء محمد وجاء الإبل
كفالة عمه أبي طالب بن عبد المطلب
أَوْصَى عَبْدُ المُطَّلِبِ وَلَدَهُ أبَا طَالِبٍ بِكَفَالَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحِفْظِهِ، وحِيَاطَتِهِ؛ وذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهَ وَالِدَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وأَبَا طَالِبٍ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أُمُّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بنِ عَائِذٍ، فقَامَ أَبُو طَالِبٍ بِحَقِّ ابْنِ أَخِيهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَضَمَّهُ إِلَى وَلَدِهِ، بَلْ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ (1).
رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ المُطَّلِبِ قَبَضَ أَبُو طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، فكَانَ يَكُونُ مَعَهُ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ لَا مَالَ لَهُ، وَكَانَ يُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُبًّا شَدِيدًا لَا يُحِبُّهُ وَلَدَهُ، وَكَانَ لَا يَنَامُ إِلَّا إِلَى جَنْبِهِ، وَيَخْرُجُ فَيَخْرُجُ مَعَهُ، وَكَانَ يَخُصُّهُ بالطَّعَامِ، وَكَانَ إِذَا أَكَلَ عِيَالُ أَبِي طَالِبٍ جَمِيعًا، أَوْ فُرَادَى لَمْ يَشْبَعُوا، وَإِذَا أَكَلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَبِعُوا، فكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُغْذِيَهُمْ قَالَ: كَمَا أنْتُمْ حَتَّى يَحْضُرَ ابْنِي، فَيَأْتِي رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأْكُلَ مَعَهُمْ
محمَّد صلى الله عليه وسلم يخرج مع عمه إلى الشام
رَوَى التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ (1) -يَعْنِي بَحِيرَا (2) – هَبَطُوا (3)، فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ، فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، ولا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟
قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ (4)، لَمْ تَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، ولَا يَسْجُدَانِ إلَّا لِنَبِيٍّ، وإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ (5) كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أتَاهُمْ بِهِ، وكَانَ هُوَ -أَي الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ -أيْ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ صلى الله عليه وسلم وعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ القَوْمِ، وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فقَالَ بَحِيرَا: انْظُرُوا إِلَي فَيْءَ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِم عَلَيْهِمْ، وهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟
قَالُوا: جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ في هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيق إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وإنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ، فَبُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، فقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟
قالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا.
قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟
قالُوا: لَا، قَالَ: فَبَايَعُوهُ، وأَقَامُوا مَعَهُ عِنْدَهُ.
قَالَ: فَقَالَ الرَّاهِبُ بَحِيرَا: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيكُّمْ وَليُّهُ؟
قال أَبُو طَالِبٍ: فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وبَعَثَ مَعَهُ أبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا رضي الله عنهما، وزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ والزَّيْتِ
رَعْيُهُ صلى الله عليه وسلم للْغَنَمِ
قَالَ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: وكَانَ أَبُو طَالِبٍ لَا مَالَ لَهُ فَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ الرِّحْلَةِ بَدَأَ سَعْيُهُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي صِبَاهُ بِرَعْي الغَنَمِ، وَرَعَاهَا لِبَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَبِذَلِكَ ضَرَبَ مَثَلًا عَالِيًا مِنْ صِغَرِهِ فِي اكْتِسَابِ الرِّزْقِ بِالْكَدِّ، وَالتَّعَبِ.
قَالَ أَحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي شَبَابِهِ … لَا يَدَعُ الرِّزْقَ وَطَرْقَ بَابِهِ
أَيُّ رسُولٍ أَوْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ … لَمْ يَطْلُبِ الرِّزْقَ وَيَبْغِ سُبْلَهُ؟
مُوسَى الكَلِيمُ اسْتُؤْجِرَ اسْتِئْجَارًا … وَكَانَ عِيسَى (1) فِي الصِّبَا نَجَّارًا
رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ”، فقَالَ أصْحَاُبهُ: وأنْتَ؟ فقَالَ: “نَعَمْ، كنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ (2) لِأَهْلِ مَكَّةَ” (3).
ورَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفْرَدِ والطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ حَزْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “بُعِثَ مُوسَى وَهْوُ رَاعِي غَنَمٍ،وبُعِثَ دَاوُدُ وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، وبُعِثْتُ أَنَا، وأنَا أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِي بِأَجْيَادَ”
شُهُودُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَرْبَ الفِجَارِ
وَلَمَّا بَلَغَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَقِيلَ عِشْرُونَ سَنَةً، هَاجَتْ حَرْبُ الفِجَارِ، وكَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ، وبَيْنَ قَيْسٍ وَأحْلَافِهَا، وكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ، وكِنَانَةَ: حَرْبُ بنُ أُمَيَّةَ، وَكَانَ الظَّفَرُ فِي أوَّلِ النَّهَارِ لِقَيْسٍ عَلَى قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ، حتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ كَانَ الظَّفَرُ لِقُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ، وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أيَّامِهِ، وكَانَ يَنْبُلُ عَلَى عُمُومَتِهِ: أيْ يُجَهِّزُ لَهُمُ النَّبْلَ لِلرَّمْي، وقِيلَ يَرُدُّ عَنْهُمْ نَبْلَ عَدُوِّهِمْ
شُهُودُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِلْفَ الفُضُولِ
قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ: كَانَ حِلْفُ الفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمعَ بِهِ، وأشْرَفَهُ في العَرَبِ (1).
وكَانَ هَذَا الحِلْفُ في ذِي القَعْدَةِ في شَهْرٍ حَرَامٍ، بَعْدَ حَرْبِ الفِجَارِ بِشَهْرٍ وقِيلَ بَأَرْبَعِ أَشْهُرٍ.
وسَبَبُ هَذَا الحِلْفِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ (زُبَيْدٍ) بِالْيَمَنِ قَدِمَ مَكَّةَ ببضَاعَةٍ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ العَاصُ بنُ وَائِلٍ، وأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ، فَاستَدْعَى عَلَيْهِ الزُّبَيْدِيُّ الأَحْلَافَ: عَبْدَ الدَّارِ، ومَخْزُومًا، وجُمَحًا، وَسَهْما، وَعَدِيَّ بنَ كَعْبٍ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى العَاصِ بنِ وَائِلٍ، وَانْتَهَرُوهُ.
فلَمَّا رَأَى الزُّبَيْدِيُّ الشَّرَّ، صَعِدَ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقُرَيْشٌ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَنَادَى بِأَبْيَاتِهِ المَشْهُورِةِ، يَصِفُ فِيهَا ظُلَامَتَهُ، رَافِعًا صَوْتَهُ:
يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضاعَتَهُ … بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ
ومُحْرِمٌ أَشْعَثُ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ … يَا لَلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ والَحَجَرِ
إِنَّ الحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ كَرَامَتُهُ … ولَا حَرَامَ لِثَوْبِ الفَاجِرِ الغَدِرِ
فَقَامَ الزُّبَيْرُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: مَا لِهَذَا مَتْرُوكٌ فَاجْتَمَعَتْ بَنُو هَاشِمٍ، وَزُهْرَةُ، وبَنُو تَيْمِ بنِ مُرَّةَ، في دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَدْعَانَ وتَعَاقَدُوا، وتَحَالفوا بِاللَّهِ، لَيَكُونُنَّ يَدًا وَاحِدَةً مَعَ المَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ، حتَّى يُرَدَّ عَلَيْهِ حَقُّهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ هَذَا الحِلْفَ (حِلْفَ الفُضُولِ) وقَالُوا: لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلَاءَ في فَضْلٍ مِنَ الأَمْرِ، ثُمَّ مَشَوْا إِلَى العَاصِ بنِ وَائِلٍ، فَانتزَعُوا مِنْهُ سِلْعَةَ الزُّبَيْدِيِّ فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ.
وقِيلَ: سُمِّيَ حِلْفَ الفُضُولِ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ دُعِيَ إِلَيْهِ، ثَلَاثَةٌ، كُلُّهُمُ اسْمُهُ الفَضْلُ، وهُمْ: الفَضْلُ بنُ فُضَالة، والفَضْلُ بنُ وَدَاعَةَ، والفَضْلُ بنُ الحَارِثِ (1).
وقَدْ شَهِدَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هذَا الحِلْفَ، فَقَدْ رَوَى الْحُمَيْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرٍ قَالَا: قَالَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: “لَقَدْ شَهِدْتُ في دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَدْعَانَ (2) حِلْفًا، لَوْ دُعِيتُ بِهِ في الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ” (3).
ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “شَهِدْتُ حِلْفَ المُطيَّبِينَ (1) مَعَ عُمُومَتِي، وأَنا غُلَامٌ، فمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ (2)، وإنِّي أَنْكُثُهُ”
خُرُوجُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بتِجَارَةِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها
وفِي الخَامِسَةِ والعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ المُبَارَكِ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تاجِرًا إِلَي الشَّامِ في مَالِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها.
وكانَتْ خَدِيجَةُ نِجْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَة تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ، وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ في مَالِهَا وتُضَارِبُهُمْ (1) إيَّاهُ، بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ.
فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ما بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ، وعِظَمِ أمَانَتِهِ وكَرَمِ أخْلَاقِهِ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالِهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا وتُعْطِيَهُ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ، فَقَبِلَهُ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا.
وفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَا رَجُلٌ لَا مَالَ لِي، وقَدِ اشْتَدَّ الزَّمَانُ عَلَيْنَا، وهَذِهِ عِيرُ قَوْمِكَ وقَدْ حَضَرَ خُرُوجُهَا إِلَي الشَّامِ، وخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ تَبْعَثُ رِجَالًا مِنْ قَوْمِكَ فِي عِيرَاتِهَا (2)، فَلَوْ جِئتهَا فَعَرَضْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهَا لَأَسْرَعَتْ إِلَيْكَ، لِمَا يَبْلُغُهَا عَنْكَ مِنْ طَهَارَتِكَ، وفَضْلِكَ عَلَى غَيْرِكَ، فَبَلَغَ خَدِيجَةَ الخَبَرُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وقَالَتْ لَهُ: أنَا أُعْطِيكَ ضِعْفَ مَا أُعْطِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِكَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: هَذَا رِزْقٌ قَدْ سَاقه اللَّهُ إِلَيْكَ.
فَخَرَجَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَالِهَا، وخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا “مَيْسَرَةُ” (1) وجَعَلَ عُمُومَتُهُ يُوصُونَ بِهِ أَهْلَ العِيرِ، حتَّى قَدِمَا “بُصْرَى” مِنَ الشَّامِ، فنَزَلَا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنَ الرُّهْبَانِ يُقَالُ لَهُ “نَسْطُورٌ” فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إِلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟
فَقَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: هذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الحَرَمِ، فقَالَ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ إِلَّا نَبِيٌّ (2).
ثُمَّ قَالَ لِمَيْسَرَةَ: أَفِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ لَا تُفَارِقُهُ، فقَالَ: هُوَ نَبِيٌّ وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءَ.
ثُمَّ بَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِلْعَتَهُ التِي خَرَجَ بِهَا، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مُلَاحَاةٌ (3)، فقَالَ لَهُ: احْلِفْ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ، وإِنِّي لَأَمُرُّ فَأُعْرِضُ عَنْهُمَا”، فَقَالَ الرَّجُلُ: القَوْلُ قَوْلُكَ، ثُمَّ اشْترَى رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ، وأَقْبلَ قَافِلًا إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ،وكَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم المَحَبَّةَ مِنْ مَيْسَرَةَ، فكَانَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ، فَلَمَّا كَانُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، قَالَ مَيْسَرَةُ: يَا مُحَمَّدُ انْطَلِقْ إِلَى خَدِيجَةَ فَأَخْبِرْهَا بِمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهَا عَلَى وَجْهِكَ، فَإِنَّهَا تَعْرِفُ ذَلِكَ لَكَ، فَتَقَدَّمَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فِي سَاعَةِ الظَّهِيرَةِ، وخَدِيجَةُ فِي عِلِّيَّةٍ (1) لَهَا فَرَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، ومَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ، فَأَرَتْهُ نِسَاءَهَا فَعَجِبْنَ لِذَلِكَ، ودَخَلَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَبَّرَهَا بِمَا رَبِحُوا فِي وَجْهِهِمْ، فَسُرَّتْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ مَيْسَرَةُ عَلَيْهَا أخْبَرَتْهُ بِمَا رَأَتْ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ هَذَا مُنْذُ خَرَجْنَا مِنَ الشَّامِ، وأخْبَرَهَا بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ “نَسْطُورٌ”، ثُمَّ بَاعَتْ خَدِيجَةُ مَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تِجَارَةٍ فَرَبِحَتْ ضِعْفَ مَا كَانَتْ تَرْبَحُ، وأَضْعَفَتْ لَهُ ضعْف مَا كَانَتْ تُعْطِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ
خروجه إلى سوقِ حُباشةَ
قال حكيم ابن حزام وقد رأيت رسول الله صلي عليه وآله وصحبه وسلم يحضرها واشتريت منها بزًا من بز تهامة. (2)
وكان ممّن تاجر لهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم خديجة بنت خويلد [استأجرته سفرتين إلى جرش كل سفرة بقلوص [وكانت امرأة ذات مال]
شريك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في التجارة قبل الإِسلام
عن مجاهد عن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإِسلام في التجارة فلما كان يوم الفتح جاءه فقال النبي صلى الله عليه وسلم مرحبا بأخي وشريكي كان لا يداري ولا يماري يا سائب قد كنت تعمل أعمالًا في الجاهلية لا تقبل منك وهي اليوم تقبل منك وكان ذا سلف وصلة.
وروي بسنده عن السائب قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجعلوا يُثنون عليَّ، ويذكرونني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا أعلمكم به”، قلت: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكي فنعم الشريك كنت لا تُداري ولا تماري.
أحداث إعادة بناء الكعبة
الكَعْبَةُ (1) هِيَ أَوَّلُ بَيْتٍ بُنِيَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ عز وجل فِي الأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (2).
رَوَى الشَّيْخَانِ في صحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: “المَسْجِدُ الحَرَامُ” (3).
وقَدْ تَعَرَّضَتِ الكَعْبَةُ لِلْعَوَادِي التِي زَعْزَعَتْ بُنْيَانَهَا، وَصَدَّعَتْ جُدْرَانَهَا، وَقَبْلَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ سِنِينَ (4) جَرَفَ مَكَّةَ سَيْلٌ عَرِمٌ انْحَدَرَ إِلَى البَيْتِ الحَرَامِ، فَأَوْشَكَتِ الكَعْبَةُ مِنْهُ عَلَى الِانْهِيَارِ، وكَانَ قَدْ أَصَابَهَا مِنْ قَبْلُ حَرِيقٌ بِسَبَبِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تُجَمِّرُهَا، وكَانَتِ الكَعْبَةُ رَضْمًا (1) فَوْقَ القَامَةِ، فَاضْطُرَّتْ قُرَيْشٌ إِلَى تَجْدِيدِ بِنَائِهَا حِرْصًا عَلَى مَكَانَتِهَا، وحِفَاظًا عَلَى حُرْمَتِهَا، وقَدِ اتَّفَقَتْ قُرَيْشٌ عَلَى أَنْ لَا يُدْخِلُوا في بِنَاءِ الكَعْبَةِ مِنْ كَسْبِهِمْ إِلَّا طَيِّبًا، فَلَا يُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بغِيٍّ (2) ولا بَيع رِبًا، وَلَا مَظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنَ النَّاس (3).
فَلَمَّا أَرَادَتْ قُرَيْشٌ هَدْمَهَا تَهَيَّبُوا، وخَافُوا مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ أذًى، لِأَنّ أَكْثَرَهُمْ شَاهَدَ مَا الذِي حَدَثَ لِأَبْرَهَةَ الحَبَشِيِّ عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يَهْدِمَ الكَعْبَةَ، فَقَالَ لَهُمُ الوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ: أتُرِيدُونَ بِهَدْمِهَا الإِصْلَاحَ، أمِ الإِسَاءَةَ؟ قَالُوا: بَلِ الإِصْلَاحَ، فقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ المُصْلِحِينَ، وأَخَذَ المِعْوَلَ، وشَرَعَ يَهْدِمُ، فَقَالَ الوَليدُ: قُومُوا سَاعِدُونِي، فقَالُوا: لَا، نَنْتَظِرُ إلى الغَدِ، فَإِنْ أُصِيبَ الوَليدُ لَنْ نَهْدِمَ مِنْهَا شَيْئًا، وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ، وإنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ صُنْعَنَا فهَدَمْنَا.
فَأَصْبَحَ الوَليدُ مِنْ لَيْلَتِهِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ، فَهَدَمُوا مَعَهُ، وهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا خَيْرًا، حَتَّى إِذَا انتهَى الهَدْمُ بِهِمْ إِلَى الأَسَاسِ، أَسَاسِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام أَفْضَوْا إِلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ (4) آخِذ بَعْضهَا بِبَعْضٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا، وأَدْخَلَ عَتَلَةً (1) بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنْهَا لِيَقْلَعَ بِهَا أَحَدَهُمَا، فَلَمَّا تَحَرَّكَ الحَجَرُ تَنَقَّصَتْ (2) مَكَّةُ بِأَسْرِهَا، فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الأَسَاسِ.
وقَدِ اشْترَكَ سَادَةُ مَكَّةَ، ورِجَالَاتُهَا في أَعْمَالِ الهَدْمِ والبِنَاءِ، فَقَسَمُوا الكَعْبَةَ وجَعَلُوا لِكُلِّ قَبِيلَةٍ جُزْءًا مِنْهَا، فكَانَ شِقُّ البَابِ (3) لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وزُهْرَةَ، وكَانَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ، وَالرُّكْنِ اليَمَانِيِّ لِبَنِي مَخْزُومٍ، وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ، وكَانَ ظَهْرُ الكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ، وسَهْمٍ ابْنَيْ عَمْرِو بنِ هَصِيصِ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ، وكَانَ شِقُّ الحِجْرِ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ، ولبَنِي أَسَدِ بنِ العُزَّى بنِ قُصَىٍّ، ولبَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ، وَهُوَ الحَطِيمُ (4).
وقدْ شَارَكَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أعْمَامِهِ في البِنَاءِ، ونَقْلِ الحِجَارَةِ، وكَانَ عُمُرُهُ صلى الله عليه وسلم إذْ ذَاكَ خَمْسًا وثَلَاثِينَ سَنَةً (5).
رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه يُحَدِّثُ: أَنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ: يا ابنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الحِجَارَةِ، قَالَ: فَحَلَّهُ، فجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيانًا صلى الله عليه وسلم (1).
وفِي لفظٍ: لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الحِجَارَةَ، فقَالَ العَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَكبتِكَ، فَخَرَّ إلى الأَرْضِ، وطَمَحَتْ (2) عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: “أَرِنِي إِزَارِي، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ” (3).
فَلَمَّا بَلَغَتِ القَبَائِلُ في البُنْيَانِ مَوْصعَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ (4) تَنَازَعُوا فِيمَنْ يَضَعُهُ، فَكُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَحْظَى بِهَذَا الشَّرَفِ، حتَّى كَادَتِ الحَرْبُ أَنْ تَشْتَعِلَ بَيْنَهُمْ في أَرْضِ الحَرَمِ، فَهُنَا قَامَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ، وقَرَّبُوا جَفْنَةً مَمْلُوءَةً بِالدَّمِ وتَعَاقَدَتْ هِيَ وبَنُو عَدِيِّ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ عَلَى المَوْتِ، وأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي تِلْكَ الجَفْنَةِ فَسُمُّوا (لَعْقَةَ الدَّمِ).
فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أرْبَعَ لَيَالٍ، أَوْ خَمْسًا، حتَّى أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَ عُقَلَائِهِمْ وَهُوَ (أَبُو أُمَيَّةَ بنُ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ)، وَالِدُ أمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، وَكَانَ عَامَئِذٍ أَسَنَّ رَجُلٍ في قُرَيْشٍ، فقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُريشٍ اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ (1) فَرَضُوا وقَبِلُوا هَذَا الرَّأْيَ جَمِيعًا فَأَشْخَصُوا أبْصَارَهُمْ إلى بَابِ المَسْجِدِ، واشْرَأَبَّتِ (2) الأَعْنَاقُ إِلَى مَنْ يَا تُرَى يَكُونُ هَذَا الدَّاخِلُ، فَإِذَا بهِ الصَّادِقُ الأَمِينُ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَرْسَلَهُ لِيُخَلِّصَ قُرَيْشًا مِنْ هَذَا الشَّرِّ المُسْتَطِيرِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الأَمِينُ رَضِينَا، هَذَا مُحَمَّدٌ.
فَلَمَّا انتهَى إِلَيْهِمْ أخْبَرُوهُ الخَبَرَ، فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَعْطَاهُمُ الحَلِّ العَظِيمِ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: “هَلُمَّ إِلَيَّ ثَوْبًا”، فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ الحَجَرَ الأَسْوَد فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: “لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا”، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ (1).
وهَكَذَا دَرَأَ (2) رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الحَرْبَ عَنْ قُرَيْشٍ، بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ فَوْقَهَا حِكْمَةٌ، وكَانَتْ مُقَدِّمَةُ دَرْئِهِ لِلْحُرُوبِ، والشُّرُورِ عَنِ الشُّعُوبِ، وَالأُمَمِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، بِحِكْمَتِهِ وتَعَالِيمِهِ ورِفْقِهِ، وتَلَطُّفِهِ في الأُمُورِ، والإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا كَانَ رَحْمَةً لِلْمُتَخَاصِمِينَ، والمُتَحَارِبِينَ فِي قَوْمٍ بُسَطَاءَ أُمِّيِّينَ
ومَعَ جُهْدِ قُرَيْشٍ في بِنَاءَ الكَعْبَةِ، فَقَدْ ضَاقَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ الطَّيِّبَةُ عَنْ إتْمَامِ البَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَاضْطُرُّوا إِلَى أنِ يَقْتَطِعُوا مِنْهُ قِطْعَةً مِنْ جِهَتِهِ الشَّمَالِيَّةِ، وبَنَوْا عَلَى هَذَا الجُزْءَ الذِي احْتَجَزُوهُ جِدَارًا قَصِيرًا لِلْإِعْلامِ أَنَّهُ مِنَ البَيْتِ، وهُوَ مَا يُعْرَفُ بِالحِجْرِ (1).
وَكَانَ ارْتِفَاعُ الكَعْبَةِ تِسْعَةَ أذْرُعٍ عَلَى عَهْدِ إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ عليهما السلام، وَكَانَ لهَا بَابَانِ: بابٌ شَرْقِيٌّ، وبابٌ غَرْبِيٌّ لِيَدْخُلَ النَّاسُ منْ بَابٍ ويَخْرُجُوا منَ البَابِ الآخَرِ، فلمَّا بَنَتْهَا قُرَيْشٌ زَادُوا في ارْتِفَاعِهَا تِسْعَةَ أذْرُعٍ أُخْرَى، واقْتَصَرُوا عَلَى بَابٍ وَاحِدٍ، ورَفَعُوا بابَهَا عَنِ الأَرْضِ، فَصَارَ لا يُصْعَدُ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى سُلَّمٍ لِيُدْخِلُوا مَنْ يَشَاؤُونَ، ويَمْنَعُوا مَنْ يَشَاؤُونَ.
رَوَى الشَّيخانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لهَا: “يا عَائِشَةُ! لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بالبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وأَلْزَقْتُهُ بالأَرْضِ، وجَعَلْتُ لهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وبَابًا غَرْبيًّا فَبَلَغْتُ بهِ أسَاسَ إبْرَاهِيمَ” (2).
ورَوَى الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَدْرِ (3) أَمِنَ البَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: “نَعَمْ”، قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ يُدْخِلُوهُ في البَيْتِ؟ قَالَ: “إِنَّ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ”، قلتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: “فَعَلَ ذلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاؤُوا، ويَمْنَعُوا مَنْ شَاؤُوا، ولَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالجَاهِلِيَّةِ فأخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ في البَيْتِ، وَأنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ”
عصمة الله له من دنس الجاهلية صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
ظَلَّتْ حَيَاةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إلى البِعْثَةِ حَيَاةً فَاضِلَةً شَرِيفَةً، لَمْ تُعْرَفْ لَهُ فِيهَا هَفْوَةٌ، ولَمْ تُحْصَ عَلَيْهِ فِيهَا زَلَّةٌ، لَقَدْ شَبَّ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُوطُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِنَايَتِهِ، ويَحْفَظُهُ مِنْ أقْذَارِ الجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُهُ لهُ مِنْ كَرَامَتِهِ ورِسَالَتِهِ، حتَّى صَارَ أفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وأحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وأكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وأحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وأعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وأصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وأعْظَمَهُمْ أمَانَةً، وأبْعَدَهُمْ مِنَ الفُحْشِ والأَخْلَاقِ التِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ، حتَّى صَارَ مَعْرُوفًا “بالأَمِينِ” صلى الله عليه وسلم (2).
قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يُعَدِّدُ نِعَمَهُ عَلَى عَبْدِهِ ورَسُولهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. .} وذَلِكَ أَنَّ أبَاهُ تُوُفِّيَ، وهُوَ حَمْلٌ في بَطْنِ أُمِّهِ عليه السلام، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ، وله مِنْ العُمُرِ سِتُّ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَ في كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، إلى أَنْ تُوُفِّيَ، وله مِنَ العُمُرِ ثَمَانِ سِنِينَ، فكَفِلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، ثمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُوطُهُ ويَنْصُرُهُ ويَرْفَعُ مِنْ قَدْرر ويُوَقِّرُهُ، ويَكُفُّ عَنْهُ أَذَى قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ، هذَا وأبُو طَالِبٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وكُلّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، إلى أَنْ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِقَلِيلٍ، فأقْدَمَ عَلَيْهِ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَجُهَّالُهُمْ، فاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَه الهِجْرَةَ مِنْ بَيْنِ أظْهُرِهِمْ إِلَى بَلَدِ الأَنْصَارِ مِنَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ، كَمَا أجْرَى اللَّهُ تَعَالَى سُنَّتَهَ عَلَى الوَجْهِ الأَتَمِّ والأَكْمَلِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ آوَوْهُ، وَنَصَرُوهُ، وحَاطُوهُ، وقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، رضي الله عنهم أجْمَعِينَ، وكُلُّ هَذَا مِنْ حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى لَه وَكَلَاءَتِهِ وعِنَايَتِهِ بِهِ صلى الله عليه وسلم (1).
* بُغّضَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأصْنَامُ:
ونَشَأَ صلى الله عليه وسلم سَلِيمَ العَقِيدَةِ، صَادِقَ الإيمَانِ، عَمِيقَ التَّفَكُّرِ، غَيْرَ خَاضِعٍ لِتُرَّهَاتِ الجَاهِلِيَّةِ، فَمَا عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ لِصَنَمٍ قَطُّ، أَوْ تَمَسَّحَ بِهِ، أَوْ ذَهَبَ إلى عَرَّافٍ أَوْ كَاهِنٍ، بَلْ بُغِّضَ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، والتَّمَسُّحُ بِهَا، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنِي جَارٌ لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها، أَنَّهُ سَمعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ لِخَدِيجَةَ: “أَيْ خَدِيجَةُ، وَاللَّهِ لَا أَعْبُدُ اللَّاتَ، وَاللَّهِ لَا أَعْبُدُ العُزَّى أَبَدًا”. قَالَ: فتَقُولُ خَدِيجَةُ رضي الله عنها: خَلِّ اللَّاتَ، خَلِّ العُزَّى
ولَمَّا لَقِيَ بَحِيرَا الرَّاهِبَ، قَالَ لَهُ بَحِيرَا: أسْأَلُكَ بِاللَّاتِ والعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أسْأَلُكَ عَنْهُ، وكَانَ بَحِيرَا سَمعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا، فقَالَ لهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: “لَا تَسْأَلْنِي بِحَقِّ اللَّاتِ والعُزَّى شَيْئًا، فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضِي لَهُمَا” (1).
وَرَوَى النَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ رضي الله عنه قَالَ: . . . كَانَ صَنَمَانِ مِنَ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُمَا: إسَافٌ، وَنَائِلَةُ يَتَمَسَّحُ بهِمَا المُشْرِكُونَ إِذَا طَافُوا (2)، فَطَافَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وطُفْتُ مَعَهُ، فلَمَّا مَرَرْتُ، مَسَحْتُ بِهِ، فقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لَا تَمَسَّهُ”، قَالَ زَيْدُ: فَطُفْنَا، فَقُلْتُ في نَفْسِي: لَأَمَسَّنَّهُ حتَّى أَنْظُرَ ما يَكُونُ، فَمَسَحْتُهُ، فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لَا تَمَسَّهُ، أَلمْ تُنْهَ؟ “.
قَالَ زَيْدٌ: فَوَالَّذِي أكْرَمَهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ ما اسْتَلَمَ صَنَمًا قَطُّ حتَّى أكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بالذِي أَكْرَمَهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ (3).
* بُغِّضَ إلى رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشِّعْرُ:
وكَذَلِكَ بُغِّضَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُ الشِّعْرِ (4) فَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ شِعْرًا، أَوْ أَنْشَأَ قَصِيدَةً، أَوْ حَاوَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لا يَتَلاءَمُ ومَقَامُ النُّبُوَّةِ، ولَمْ يَكُنِ الشُّعَرَاءُ بِذَوِي الأخْلَاقِ، والسِّيرَةِ المَرْضِيَّةِ، فَلا عَجَبَ أَنْ نَزَّهَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَنِ الشِّعْرِ، والرِّسَالَةُ تَقْتَضِي انْطِلَاقًا في الأُسْلُوبِ والتَّعْبِيرِ، والشِّعْرُ تَقَيُّدٌ والْتِزَامٌ، وصَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (1).
ومَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يتَذَوَّقُ ما فِي الشِّعْرِ مِنْ جَمَالٍ، وَحِكْمَةٍ، ورَوْعَةٍ، ويَسْتَنْشِدُهُ أصْحَابَهُ أحْيَانًا (2)، ولا عَجَبَ فَهُوَ القَائِلُ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا، وإنَّ مِنَ الشِّعْرِ حَكْمَةً”وهُوَ القَائِلُ لِحَسَّانِ بنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه (1): “اهْجُ المُشْرِكِينَ، فإنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ” (2).
* لَمْ يَشْرَبْ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْرًا، وَلَا قَرُبَ مِنْ فَاحِشَةٍ:
ولَمْ يَشْرَبْ خَمْرًا قَطُّ صلى الله عليه وسلم، ولا اقْتَرَفَ فَاحِشَةً، ولا انْغَمَسَ فِيمَا كَانَ يَنْغَمِسُ فيهِ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ حِينَئِذٍ مِنَ اللَّهْوِ، واللَّعِبِ، والمَيْسِرِ، ومُصَاحبَةِ الأشْرَارِ ومُعَاشَرَةِ القِيَانِ (3)، . . . عَلَى ما كَانَ عَلَيْهِ مِنْ فتوَّةٍ وشَبَابٍ، وشَرَفٍ ونَسَبٍ، وعِزَّةِ قَبِيلَةٍ، وكَمَالٍ، وجَمَالٍ، وغَيْرِهَا مِنْ وَسَائِلِ الإغْرَاءِ.
ولقَدْ كَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ ذلكَ، وهُوَ كَبِيرٌ، ويَعُدُّهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيهِ، وعِصْمَتِهِ لَهُ، فقدْ رَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ والحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “ما هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُ بهِ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا، قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى كَانَ مَعِيَ منْ قُرَيْشٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ في غَنَمٍ لِأَهْلِنَا نَرْعَاهَا: أبْصِرْ لِي غَنَمِي حتَّى أسْمُرَ (1) هذِهِ اللَّيْلةَ كَمَا يَسْمُرُ الفِتْيَانُ، قَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ، فلَمَّا جِئْتُ أدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، سَمِعْتُ غِنَاءً وصَوْتَ دُفُوفٍ ومَزَامِيَر، قُلْتُ: ما هَذَا؟
قالُوا: فُلَانٌ تَزَوَّجَ فُلَانَةً، لِرَجُلٍ منْ قُرَيْشٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَهَوْتُ بذَلِكَ الغِنَاءَ وبذَلِكَ الصَّوْتِ حتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَنِمْتُ، فمَا أيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إلى صَاحِبِي، فقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟
فأخْبَرْتُهُ، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَة أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجْتُ، فَسَمِعْتُ مِثْلَ ذلكَ، فَقِيلَ لِي مِثْلَ ما قِيلَ لِي، فسَمِعْتُ كَمَا سَمِعْتُ، حتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فمَا أيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلى صَاحِبِي، فَقَالَ لِي: مَا فَعَلْتَ؟
فقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا”.
قَالَ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “فَوَاللَّهِ ما هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءِ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ حتى أكْرَمَنِي اللَّهُ بِنُبُوَّتهِ” (2).
* كَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ بِعَرَفَةَ معَ النَّاسِ:
وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ مَعَ النَّاسِ بَعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ صلى الله عليه وسلم، ولا يَصْنَعُ ما تَصْنَعُ قُرَيْشٌ مِنْ عَدَمِ وُقُوفِهَا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ، ووُقُوفُهَا بِالمُزْدَلِفَةِ، فَقَدْ رَوى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جبيْرِ بنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَدَخَلْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ. . . (1).
* كَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْرُوفًا بالأَمَانَةِ:
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم مَحَلَّ ثِقَةِ النَّاسِ وأمَانَاتِهِمْ، لا يَأْتَمِنُهُ أَحَدٌ عَلَى وَدِيعَةٍ مِنَ الوَدَائِعِ إِلَّا أدَّاهَا لَهُ، ولا يَأْتَمِنُهُ أَحَدٌ عَلَى سِرٍّ أَوْ كَلامٍ إِلَّا وَجَدَهُ عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بهِ، فلا عَجَبَ أَنْ كَانَ مَعْرُوفًا في قُرَيْشٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بالأمِينِ.
* كَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ:
وَكَانَ الصِّدْقُ مِنْ صِفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم البَارِزَةِ، شَهِدَ لهُ بِذَلِكَ العَدُوُّ والصَّدِيقُ، ولمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلى النَّاسِ جَمِيعًا، وأمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الأقْرَبِينَ، صارَ يُنَادِي بُطُونَ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا حضَرُوا قَالَ لَهُمْ: “أرَأَيْتُكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ، أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ ” قالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ ولمَّا قَالَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ لِأَبِي سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ -وَكَانَ لَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا-: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا، فقَالَ هِرَقْلُ: فَقَدْ عَرَفْتُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ويَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ (1).
قَالَ أحْمَد شَوْقي رحمه الله:
بِسِوَى الأَمَانَةِ في الصِّبَا والصِّدْقِ لَمْ … يَعْرِفْهُ أَهْلُ الصِّدْقِ والأُمَنَاءُ
يا مَنْ لَهُ الأَخْلَاقُ مَا تَهْوَى الْعُلَا … مِنْهَا ومَا يَتَعَشَّقُ الكُبَرَاءُ
لَوْ لَمْ تَقُمْ دِينًا لَقَامَتْ وَحْدَهَا … دِينًا تُضِيءُ بِنُورِهِ الآنَاءُ
زَانَتْكَ فِي الخُلُقِ العَظِيمِ شَمَائِلٌ … يُغْرَى بِهِنَّ ويُولَعُ الكُرَمَاءُ
* كان رسُوُل اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصُولًا للرَّحِمِ:
وَكَانَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، عَطُوفًا عَلَى الفُقَرَاءِ، وذَوِي الحَاجَةِ، ويُقْرِي الضَّيْفَ، ويُعِينُ الضَّعِيفَ، ويَمْسَحُ بِيَدَيْهِ بُؤْسَ البَائِسِينَ، ويُفَرِّجُ كَرْبَ المَكْرُوبِينَ، وقَدْ وَصَفَتْهُ بهَذَا أُمُّ المُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ رضي الله عنها في بَدْءِ الوَحْيِ، فقالتْ: كَلَّا وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ (2)، وتُكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ ومِنْ هَذَا العَرْضِ المُوجَزِ نَرَى أَنَّ حيَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ البِعْثَةِ كَانَتْ أمْثَلَ حيَاةٍ وأكْرَمَهَا، وأحْفَلَهَا بِمَعَانِي الإِنْسَانِيَّةِ، والشَّرَفِ، والكَرَامَةِ، وعَظَمَةِ النَّفْسِ، ثُمَّ نَبَأَهُ اللَّهُ تَعَالَى وبَعَثَهُ، فنَصَتْ هَذِهِ الفَضَائِلُ وترَعْرَعَتْ، وما زَالَتْ تَسْمُو فُرُوعُهَا، وتَرْسُخُ أُصُولُهَا، وتَتَّسِعُ أفْيَاؤُهَا حتَّى أضْحَتْ فَرِيدَةً في تَارِيخِ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا.
إِنَّ هذِهِ الحَيَاةَ الفَاضِلَةَ المُثْلَى لَمِنْ أكْبَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا سَمِعْنَا في تَارِيخِ الدُّنْيَا قَدِيمِهَا، وحَدِيثِهَا أَنَّ حَيَاةً كُلَّهَا فَضْلٌ وكَمَالٌ، وهُدًى ونُورٌ، وحَقٌّ وخَيْرٌ، كحَيَاةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ولَمْ يُعْهَدْ في تَارِيخِ البَشَرِ أَنَّ شَخْصًا يَسْمُو عَلَى كُلِّ مُجْتَمَعِهِ وهُوَ يَعِيشُ فيهِ، ويَنْشَأُ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ نَقَائِصِهِ ومَثَالِبِهِ، وهُوَ نَابِعٌ مِنُه، ولا أَنَّ نُورًا يَنْبَعِثُ مِنْ وَسَطِ ظُلُمَاتٍ، ولا طَهَارَةً تَنْبُعُ مِنْ وَسَطِ أدْنَاسٍ، وأرْجَاسٍ، ولا أَنَّ عِلْمًا يكُونُ مِنْ بَيْنِ جَهَالَاتٍ وخُرَافَاتٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لحِكْمَةٍ، وأَمْرًا جَرَى عَلَى غَيْرِ المَعْهُودِ والمَأْلُوفِ، ومَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِعْدَادِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلنُّبُوَّةِ (1).
قَالَ البُوصِيرِيُّ:
كَفَاكَ بِالعِلْمِ في الأُمِّيِّ مُعْجِزَةً … في الجَاهِلِيَّةِ والتَّأْدِيبِ في الْيُتْمِ
قَالَ ابنُ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ: فَشَبَّ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، واللَّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ ويَحْفَظُهُ، ويَحُوطُهُ مِنْ أقْذَارِ الجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ بهِ مِنْ كَرَامَتِهِ ورِسَالَتِهِ، حتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا، وأفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وأحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وأكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وأحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وأعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وأصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وأعْظَمَهُمْ أمَانةً، وأبْعَدَهُمْ مِنَ الفُحْشِ والأَخْلَاقِ التِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ، تَنَزُّهًا وتَكَرُّمًا، حتَّى مَا اسْمُهُ في قَوْمِهِ إِلَّا “الأمِينُ”، لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الأُمُورِ الصَّالِحَةِ (1).
وَقَالَ القَاضِي عِياضٌ: وَكَانَ صلى الله عليه وسلم مَجْبُولًا عَلَيْهَا -أيْ الأخْلَاقِ الحَمِيدَةِ- في أصْلِ خِلْقَتِهِ وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، لمْ تَحْصُلْ لهُ بِاكْتِسَابٍ ولا رِيَاضَةٍ إِلَّا بِجُودٍ إلَهِيٍّ وخُصُوصِيَّهٍ رَبَّانِيَّةٍ (2).
وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والذِي لا رَيْبَ فيهِ: أَنَّ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم كان مَعْصُومًا قَبْلَ الوَحْي، وبَعْدَهُ، وقَبْلَ التَّشْرِيعِ مِنَ الزِّنَى قَطْعًا، ومِنَ الخِيَانَةِ والكَذِبِ، والسُّكْرِ، والسُّجُودِ لِوَثَنٍ، والاسْتِقْسَامِ بالأزْلَامِ، ومِنَ الرَّذَائِلِ، والسَّفَهِ وبَذَاءِ اللِّسَانِ، وكَشْفِ العَوْرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يطُوفُ عُرْيَانًا، ولا كَانَ يَقِفُ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ قَوْمِهِ بِمُزْدَلِفَةٍ، بلْ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ، وبِكُلِّ حالٍ لَوْ بَدَا مِنْهُ شَيْءٌ منْ ذَلِكَ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ لا يَعْرِفُ، ولَكِنْ رُتْبَةُ الكَمَالِ تَأْبَى وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم (1).
وَقَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ قَرَأْنَا سِيَرَ الحُكَمَاءِ والفَلاسِفَةِ، والعَبَاقِرَةِ، والمُصْلِحِينَ، وأَصْحَابَ النِّحَلِ، والمَذَاهِبِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، فمَا وَجَدْنَا حَيَاةَ أحَدٍ مِنْهُمْ تَخْلُو مِنَ الشُّذُوذِ عنِ الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، والتَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ، والخُلُقِ الرَّضِيِّ، إمَّا مِنْ نَاحِيَةِ العَقِيدَةِ والتَّفْكِيرِ، وإمَّا مِنْ نَاحِيَةِ السُّلُوكِ والأخْلَاقِ، وغَايَةُ مَا يُقَالُ في أسْمَاهُمْ وأزْكَاهُمْ: كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ! حَاشَا الأنْبِيَاءَ والمُرْسَلِينَ، فَقَدْ نَشَّأَهُمُ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَى أكْمَلِ الأَحْوَالِ، وعَظِيمِ الأخْلَاقِ، وقدْ بَلَغَ الذُّرْوَةَ في الكَمَالِ خَاتَمُهُمْ وسَيِّدُ البَشَرِ كُلِّهِمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم
زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها
كَانَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها تُسَمَّى سَيِّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وتُسَمَّى الطَّاهِرَةَ وذَلِكَ لِشِدَّةِ عَفَافِهَا، وكانَتْ نَقِيَّةً ذَاتَ عَقْلٍ وَاسِعٍ، وَحَسَبٍ، ومَالٍ.
لَمَّا سَمِعَتْ رضي الله عنها بِعَظِيمِ أمَانَةِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، وحُسْنِ أخْلاقِهِ،وصِدْقِ حَدِيثِهِ، أَحَسَّتْ رضي الله عنها أَنَّهَا وَجَدَتْ ضَالَّتَهَا المَنْشُودَةَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ رَجُلٌ لا تَسْتَهْوِيهِ حَاجَةٌ، وأنَّهُ لا يَتَطَلَّعُ إِلَى مَالٍ، ولا إِلَى جَمَالٍ، فَحَدَّثَتْ بِمَا في نَفْسِهَا إلى صَدِيقَتِهَا نَفِيسَةَ بِنْتِ مُنَيَّةَ، فَذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَدِيجَةَ فَرَضِيَ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ.
وسَأَدَعُ نَفِيسَةَ بِنْتَ مُنَيَّةَ تَرْوِي لَنَا قِصَّةَ زَوَاجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها، قَالَتْ نَفِيسَةُ: كَانَتْ خَدِيجةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً حَازِمَةً جَلْدَةً، شَرِيفَةً، مَعَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا مِنَ الكَرَامَةِ والخَيْرِ، وهِيَ يَوْمَئِذٍ أوْسَطُ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وأعْظَمَهُمْ شَرَفًا، وأكْثَرَهُمْ مَالًا، وَكُلُّ قَوْمِهَا حَرِيصٌ عَلَى نِكَاحِهَا لَوْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ، قَدْ طَلَبُوهَا وبَذَلُوا لَهَا الأَمْوَالَ، فأرْسَلَتْنِي دَسِيسًا (1) إلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ رَجَعَ في عِيرِهَا مِنَ الشَّامِ، فقُلْتُ: يا مُحَمَّدُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ فقَالَ: مَا بِيَدِي مَا أَتَزَوَّجُ بهِ، قُلْتُ: فإنْ كُفِيتَ ذَلِكَ، ودُعِيتَ إلى الجَمَالِ، والمَالِ والشَّرَفِ، والكَفَاءَةِ ألَا تُجِيبُ؟ قَالَ: فَمَنْ هِيَ؟ قُلْتُ: خَدِيجَةُ، قَالَ: وكَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ عَلَيَّ، قَالَ: فأنَا أفْعَلُ، قَالَتْ نَفِيسَةُ: فَذَهَبْتُ فأخْبَرْتُ خَدِيجَةَ، فأرْسَلَتْ إِلَيْهِ أنِ ائْتِ لِسَاعَةِ كذَا وكذَا، وأرْسَلَتْ إلى عَمِّهَا عَمْرِو بنِ أَسَدٍ لِيُزَوِّجَهَا، فَحَضَرَ، لِأَنَّ أبَاهَا مَاتَ قَبْلَ حَرْبِ الفِجَارِ،ثُمَّ إِنَّ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَعْمَامِهِ، فَأَقَرُّوا لَهُ ذَلِكَ، ورَضَوْهَا زَوْجَةً لَهُ صلى الله عليه وسلم، فخَرَجَ مَعَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وعَمُّهُ حَمْزَةُ، حتَّى دَخَلُوا عَلَى عَمْرِو بنِ أَسَدٍ (1) عَمِّ خَدِيجَةَ رضي الله عنها، فَخَطَبُوا إِلَيْهِ ابْنَةَ أَخِيهِ، وحَضَرَ العَقْدَ رُؤَسَاءُ مُضَرَ، فقامَ أَبُو طَالِبٍ فَخَطَبَ فقَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ، وزَرْعِ إسْمَاعِيلَ، وضِئْضِئِ (2) مَعْدٍ، وجَعَلَنَا حَضَنَةَ بَيْتِهِ وسُوَّاسَ (3) حَرَمِهِ، وجَعَلَ لنَا بَيْتًا مَحْجُوجًا، وحَرَمًا آمِنًا، وجَعَلَنَا الحُكَّامَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ ابنَ أخِي هَذَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ لا يُوزَنُ بِرَجُلٍ إِلَّا رَجَحَ بِهِ شَرَفًا، ونُبْلًا، وفَضْلًا، وعَقْلًا، فَإِنْ كَانَ في المَالِ قُلٌّ، فإنَّ المَالَ ظِلٌّ زَائِلٌ، وأمْرٌ حَائِلٌ، ومُحَمَّدٌ مِمَّنْ قَدْ عَرَفْتُمْ قَرَابَتَهُ، وقَدْ خَطَبَ إلَيْكُمْ رَاغِبًا كَرِيمَتَكُمْ خَدِيجَةَ، وقَدْ بَذَلَ لَهَا مِنَ الصَّدَاقِ مَا حَكَمَ عَاجِلُهُ، وآجِلُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ذَهَبًا وَنَشًّا (1)، وهُوَ وَاللَّهِ بَعْدَ هَذَا لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ وخَطَرٌ جَلِيلٌ جَسِيمٌ. فَكَانَ جَوَابُ وَلِيِّ خَدِيجَةَ: هَذَا البِضْعُ لَا يُقْرَعُ أَنْفُهُ (2).
وبَنَى (3) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَدِيجَةَ رضي الله عنها، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا وَنَحَرَ جَزُورًا أَوْ جَزُورَيْنِ، وأطْعَمَ النَّاسَ، فكَانَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَها رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ولَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا، حتَّى مَاتَتْ رضي الله عنها،وكَانَ عُمُرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ رضي الله عنها خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً، وذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ منَ الشَّامِ بِشَهْرَيْنِ، وكَانَ عُمُرُهَا رضي الله عنها يَوْمَئِذٍ أرْبَعِينَ سَنَةً (4).
وكانَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها قَدْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلَيْنِ أَوَّلُهُمَا: عَتِيقُ بنُ عَائِدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وجَارِيَةً اسْمَهَا: هِنْدٌ، فتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا صَيْفِيُّ بنُ أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا، وثَانِيهِمَا: أَبُو هَالَةَ بنِ مَالِكٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، واسْمُهُ هِنْدٌ، فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا اسْمُهُ هَالَةُ، وَوَلَدًا اسْمُهُ هِنْدٌ أَيْضًا، وجَارِيَةً اسْمُهُا زَيْنَبُ.
وقَدِ ابْتَنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِخَدِيجَةَ رضي الله عنها فِي البَيْتِ الذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ، وفِيهِ وَلَدَتْ جَمِيعَ أَوْلَادِهَا، وفِيهِ تُوُفِّيَتْ، ولَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاكِنًا فِيهِ حَتَّى خَرَجَ إِلَى المَدِينَةِ مُهَاجِرًا فَأَخَذَهُ عَقِيلُ بنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
أَوْلَادُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَدِيجَةَ رضي الله عنها
وَلَدَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَادَهُ جَمِيعًا عَدَا إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ (3) القِبْطِيَّةَ.
وكَانَ أَوَّلُ مَنْ وُلدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَدِيجَةَ قَبْلَ البِعْثَةِ: القَاسِمُ، وبِهِ يُكَنَّى صلى الله عليه وسلم، رَوَي ابْنُ مَاجَه في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا عَنِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ قَالَ: لمَّا تُوُفِّيَ القَاسِمُ ابنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها: يا رسُولَ اللَّهِ، دَرَّت لُبَيْنَةُ القَاسِمِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ أبْقَاهُ حتَّى يَسْتَكْمِلَ رَضَاعَهُ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ إتْمَامَ رَضَاعِهِ في الجَنَّةِ”.
قَالَتْ: لَوْ أَعْلَمُ ذلِكَ يا رَسُولَ اللَّه، لَهَوَّنَ عَلَيَّ أَمْرَهُ.
فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهِ فَأُسْمِعَكِ صَوْتَهُ”.
قَالَتْ: يا رسُولَ اللَّه، بَلْ أُصَدِّقُ اللَّهَ ورَسُولَهُ (1).
ثُمَّ زَيْنَبُ (2) ، ثمَّ رُقَيَّةُ (3)، ثمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ (4)، ثمَّ فَاطِمَةُ (5)، ثُمَّ وُلِدَ لهُ فِي الإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُلَقَّبُ بالطَّيِّبِ والطَّاهِرِ؛ لأَنَّهُ وُلدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ رضي الله عنهم أجْمَعِينَ.
قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ وُلِدَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَهَلْ وُلِدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَوْ قَبْلَهَا؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وصَحَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وُلدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وهَلْ هُوَ الطَّيِّبُ والطَّاهِرُ؟ أمْ هُمَا غَيْرُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: والصَّحِيحُ أنَّهُمَا لقبَانِ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (1).
وقَدْ مَاتَ بَنُوهُ صلى الله عليه وسلم وهُمْ صِغَارٌ، فَمَاتَ القَاسِمُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ سِنًّا تُمَكِّنُهُ مِنَ المَشْيِ، وقِيلَ سِنًّا تُمَكِّنُهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ، ثُمَّ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ، وهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ.
وَأَمَّا بَنَاتُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَكُلّهُنَّ أَدْرَكْنَ الإِسْلَامَ، وأَسْلَمْنَ، وعِشْنَ حَتَّى تَزَوَّجْنَ وَكُلُّهُنَّ مِتْنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَا عَدَا فَاطِمَةَ رضي الله عنها، فَقَدْ تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
قَلَقٌ غَامِضٌ وَعَدَمُ تَرَقُّبٍ لِنُبُوَّةٍ أَوْ رِسَالَةٍ
وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَجِدُ في نَفْسِهِ قَلَقًا غَامِضًا لا يَعْرِفُ مَصْدَرُهُ ولَا مَصِيرَهُ، ومَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِ لَحْظَةً، مَا اللَّهُ مُكْرِمُهُ بِهِ مِنَ الوَحْي والرِّسَالَةِ، ولا يَحْلُمُ بِذَلِكَ في يَوْمٍ مِنَ الأيَّامِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} (1).
إِنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْتَشْرِفُ للنُّبُوَّةِ، ولا يَحْلُمُ بهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُلْهِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى الخَلْوَةَ لِلْعِبَادَةِ تَطْهِيرًا، وإعْدَادًا رُوحِيًّا لَتَحَمُّلِ أعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، ولَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشْرِفُ للنُّبُوَّةِ لَمَا فَزعَ مِنْ نُزُولِ الوَحْي عَلَيْهِ، ولَمَا نَزَلَ إلى خَدِيجَةَ يَسْتَفْسِرُهَا عَنْ سِرِّ تِلْكَ الظَّاهِرَةِ التِي رَآهَا في غَارِ حِرَاءٍ، ولَمْ يَتَأَكَّدْ مِنْ أَنَّهُ رسُولٌ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الوَحْي عَلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ فَتْرَةِ الوَحْي (2).
وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وتَرْبِيَتِهِ، أَنْ نَشَأَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا لا يَقْرَأُ ولا يَكْتُبُ، فَكَانَ أبْعَدَ عَنْ تُهَمَةِ الأَعْدَاءِ، وَظِنَّةِ المُفْتَرِينَ، وإلى ذَلِكَ أشَارَ القُرْآنُ الكَرِيمُ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (3).
وقَدْ لَقَّبَهُ القُرْآنُ الكَرِيمُ بِالأُمِّيِّ فقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}
مقدمات النبوة ونزول الوحي
فِي الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بَدَأَتْ تَلُوحُ آثَارُ النُّبُوَّةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، فَمِنْ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَالْآثَارِ:
أَوَّلًا: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ:
أوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّبُوَّةِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ (1)، فكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا فِي نَوْمِهِ إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ (2)، حَتَّى مَضَتْ عَلَى ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بُدِئَ بِالْوَحْيِ صلى الله عليه وسلم.
روَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَاُ بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ
ثَانِيًا: حُبُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْخَلْوَةِ:
وَلَمَّا تَقَارَبَتْ سِنُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْأَرْبَعِينَ حَبَّبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ الْخَلْوَةَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ، فكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَهْجُرُ مَكَّةَ كُلَّ عَامٍ لِيَقْضيَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَحَنَّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَزَوَّدُ لِخَلْوَتِهِ لِبَعْضِ لَيَالِي الشَّهْرِ، فَإِذَا نَفَدَ ذَلِكَ الزَّادُ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَزَوَّدُ قَدْرَ ذَلِكَ، فَيُقِيمُ فِي حِرَاءَ شَهْرًا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَيَقْضِي وَقْتَهُ فِي التَّفْكِيرِ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ مَشَاهِدِ الْكَوْنِ، وَفِيمَا وَرَاءَهَا مِنْ قُدْرَةٍ مُبْدِعَةٍ، حَتَّى وَصَلَ مِنَ الصَّفَاءَ وَالْإِشْرَاقِ إِلَى مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ انْعَكَسَتْ فِيهَا أَشِعَّةُ الْغُيُوبِ عَلَى صفْحَةِ قَلْبِهِ الْمَجْلُوَّةِ، فَأَصْبَحَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ.
رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَوَّلُ مَاُ بدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ. . . ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَضَى جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ الْكَعْبَةَ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجعُ إِلَى بَيْتِهِ وَظَلَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ إِلَى أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ وَهُوَ فِي إِحْدَى خَلَوَاتِهِ تِلْكَ
* ثَالِثًا: تَسْلِيمُ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم-:
رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ” (2).
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ والْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ، وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (3).
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَرَامَتِهِ، وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتَّى تَحَسَّرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ، وَيُفْضِي إِلَى شِعَابِ (1) مَكَّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرُّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (2)، قَالَ: فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَوْلَهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، وَخَلْفِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (3).
* رَابِعًا: سَمَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّوْتَ وَرُؤْيَتُهُ الضَّوْءَ:
رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَيَرَى الضَّوْءَ (4) سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا، وَثَمَانَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ (5).
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِخَدِيجَةَ “إِنِّي أَرَى ضَوْءًا وَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جُنُنٌ”، فَقَالَتْ رضي الله عنها: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ! ثُمَّ أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنْ يَكُ صَادِقًا، فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ (1) مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى، فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيٌّ فَسَأُعَزِّرُهُ (2)، وَأَنْصُرُهُ، وَأُومِنُ بِهِ